محتوى بالعربي

"راقصة الغيوم" قصة قصيرة

 

انتبهت من نومي على وقع طرقات واهنة لا أعلم من أين تأتيني، تلفت حولي فلمحت رسالة جديدة على الشاشة الضوئية التي أحضرها ابني لتذكيري بمواعيد الدواء، اعتدلت على سريري وتناولت العلبة المخصصة لجرعة الصباح، امتعضت لسخونة الماء الموضوع على الكومود، وضعت الأقراص في جيب قميص نومي وتحاملت على نفسي لأحضر الماء البارد من الثلاجة، تكرر صوت الطرقات على استحياء، اصخت السمع عليّ أهتدي لمصدر الصوت، كان الصوت يأتي من الغرفة، زدت من تركيزي وتعجبت عندما اكتشفت أن الصوت يأتي من دولاب الملابس، غمرتني التساؤلات وامتلأت روحي بالكثير من علامات الاستفهام، هل هي لفأر تسلل للغرفة؟، ربما هي قطة؟، أيكون لصا جاء ليسرقني فشاء حظه التعس أن يحبس بداخل الخزانة؟، تزايدت ضربات قلبي وأنا أقترب من مصدر الصوت، أمسكت المقبضين و شددتهما ناحيتي بسرعة، كان قاعه هادئا صامتا، تحتل فساتين سهراتي القديمة كل شماعاته الخشبية، في الأسفل لمحت إطارا خشبيا يحمل صورة قديمة لطفلة صغيرة ترتدي فستانا مخصصا لراقصات الباليه، تميل أمها عليها لإحكام ربط شرائط حذاء الباليرينا حول ساقها، قربت الصورة من عيني لأتأكد من تفاصيلها وأتعرف على صاحبتها، كان الإطار باليا مفككا من بعضه، تراجعت على مهل حتى اسندت نفسي على السرير، وضعت الصورة أمامي، تماسكت جيدا حتى استقمت واقفة، رفعت ذراعاي لأعلى حتى صارا بمحاذاة بعضهما البعض، نصبت ظهري وحاولت أن أرفع قدمي لأقف على أطراف أصابعي لكن دوارا خاطفا ضرب راسي فجأة فترنحت وارتميت على الكرسي الصغير الملاصق للسرير. 

 

على الحائط المواجه كان هناك العديد من الأطر الخشبية التي تحتوي صوري في مختلف حفلات الباليه التي شاركت فيها، كسارة البندق، روميو وجولييت وبحيرة..... قطع تسلسل افكاري تلك الألحان التي انسابت في المكان، أعرفها جيدا، أنا أحفظها لا فقط أعرفها، تشايكوفسكي، أتذكرها وكأنها منقوشة على جدار روحي، تسمرت عيناي على صورتي في زي البجعة، الموسيقى مستمرة وأنا أتذكر سيجفريد؛ الأمير وأوديت، ملكة البجع المسحورة التي تحتاج لرجل نقي يفصح عن حبه كي تنفك لعنتها، وددت في تلك اللحظة أن أملك زمام جسدي لأرقص على تلك الالحان الشجية تماما كتلك التي بالصورة، كنت أدور في مكاني ببطء وقد انسجمت مع الموسيقى عندما فاجأني الفستان الأبيض الممتلئ بالريش وهو يتمايل أمامي وكأنه يرقص على النغمات بنفس الحركات المعروفة وقد عاد لما كان عليه وقت الحفل، بالأسفل منه كان حذاء الباليرينا يخطو خطوات ثابتة على طرفه الأمامي وكأنني أرتديه، تسمرت في مكاني ومددت يداي المرتعشتين إليهما وقد غمرتني موجات الحنين المفعم بالذكريات.

 

صارت الغرفة فجأة وكأنها خشبة مسرح كبيرة، إضاءة مبهرة، همهمات جمهور لا أراه لكن أنفاسه المتسارعة الممتلئة بالحماس تأتيني واضحة، دقات ثلاث، صوت انفتاح الستار لينكشف المسرح عادت إليّ كما كانت من قبل ثم صمت جميل وكأن انبهار الناس بديكور المسرح قد أحال همساتهم هدوءً متحفزا، انطلقت الموسيقى، أحاطت بي من كل جانب وكأن أوركسترا كاملا يرافقني بالغرفة، بدأ تأهب الفستان للرقص والحذاء يسير بمعيته وكأن شبحا يرتديهما، امتلأ المكان بالتصفيق عندما انحنى الفستان لتحية الجمهور، استمر الفستان والحذاء في أداء دورهما مع استمرار الموسيقى وتوالي فصول العرض، مع تعالي لحن الختام هدرت الغرفة بالتصفيق المحموم الذي يبدو من شدته أنه لن ينتهي، يحيي الفستان والحذاء جمهوره مرات عدة، استطعت تحريك جسدي المتصلب بانتهاء العرض، ضممت الفستان على صدري والدموع تغرق وجهي، كنت أبحث فيه أن أحلامي القديمة ونجاحاتي التي ظننت أن الجميع قد نسيها ونسيوني معها لكن فستاني عاد ليطمئنني، كنت أنظر إليه لأنقش تفاصيله في عقلي الذي مُحِيَت منه الكثير من الذكريات لكن ظلاما تاما حل بالمكان أفزعني.

 

 صوت سيارة الإسعاف يرج المكان ويبث في روحي الرعب، أمسح باقي الدموع من وجهي وأحاول اكتشاف ما يحدث، أنفتح بابان، كشفت عما بداخلها، كانت سيارة الإسعاف التي سمعت صوتها، رأيت مسعفين بذي قديم يحملون سريرا منها لداخل مستشفى أتذكره تماما، أعرفها جيدا تلك المريضة المحمولة، أصابع قدميها المتراكبة المشوهة بفعل السير على أطرافها تماما كأصابعي، تنزف ساقها وركبتها من إصابة شديدة حلت بهما، ظلام جديد يحيطني قبل أن تضاء كشافات بمواجهتي وأنا نائمة على سرير العمليات، أنفاسي متلاحقة ودقات قلبي سريعة رغم تأثير البنج، همهمات حزينة تسرى في الغرفة أشعر ببعضها وارى تفاصيل بعضها وكأنني أشاهد فيلما في التلفزيون، أرى الطبيب مع أمي في غرفة مجاورة لغرفة الإفاقة، الأسى الذي تجسم على وجهها والدموع التي سالت من عينيها ويديها التي غطت وجنتيها تشي بمصيبة قد حلت بنا، أراني في بيتنا وقد تماثلت الشفاء وتعافيت تماما لكن اسئلتي عن موعد عودتي للباليه مازالت بلا إجابة شافية، مع الوقت أدركت أن خطب كبير يحول بيني وبين ما أريد، أراني مرة أخرى وأنا أخبر أمي برغبتي في تدريب بعض الفتيات الصغيرات على الباليه، أرى قسمات وجهها وقد ارتخت أخيرا بعد شهور من التجهم والحزن.

 

 صوت الآذان يقطع ما كنت أفكر فيه، أمسك الورقة والقلم لتدوين طرف الذكرى حتى لا أنساها؛ هكذا طلب مني الطبيب، طال وقت تحديقي في الورقة والقلم بين أصابعي، لم أتذكر شيئا، أعلن شيخ المسجد القريب إقامة الصلاة فتوجهت للحمام للوضوء، أمسح على قدمي قبل أن أتذكر أنني لم أغسل يدي، أعود واكتشف أن وجهي جافا لم يمسسه ماء، وربما لم أمسح على رأسي أيضا، اغلق الصنبور وأنا استغفر الله على ذاكرتي المهترئة، أفرد سجادة الصلاة وأمامي وأقف عليها، الحمد لله رب العالمين.....، ماذا بعدها، صمت طويل قبل أن أتذكر ولا الضالين آمين، لا أتذكر قصار السور التي كنت أقرأها بعدها، أسجد مرتين، هل ركعت قبلها؟، لا أعرف، لملمت سجادتي والقيتها على طرف السرير وقد انتابني إحساس الضياع وكأني في مكان لا أعرفه، تعجبت من الإطار الموضوع على السرير، حاولت حمله لكنه تفكك بين يدي، جمعته بحرص ووضعته على التسريحة كي يصلحه ابني عندما يأتي، ربما أتى اليوم ولن يأتي مرة أخرى، لا أتذكر، الحذاء والفستان علقتهما بحرص شديد في المكان المخصص لهما قبل أن أتوجه للشرفة، أرفع رأسي للسماء، ممتلئة بغيم أبيض يحجب بعضا من نور الشمس، لا أجلس على الكرسي بل أتراجع لأستند بجسدي على الحائط، اشعر ببعض البرودة في كفي فأضع يدي في جيبي رغبة في بعض الدفء، يفاجئني ملمس غريب، ارفع ما وجدته أمام عينيّ كي أتمكن من رؤيته، تبهرني ألوانها المبهجة لكني لا أتذكر ماهي، تهب علي فجأة روح أمي، أتذكرها عندما كانت تضع بذور النباتات في الأصيص الممتلئ بالطين، أضع ما بيدي من دوائر ملونة في الطين الجاف، أضغط عليها جيدا لتغوص بداخله وأذهب بخطوة أحاول أن تكون سريعة للمطبخ لإحضار ماء لسقيها. 

محتوى بالعربي

هذا المحتوى ملك للمسؤول
arab-blog.com موقع

© arab-blog.com. كل الحقوق تعود الى محتوى بالعربي. صمم ل محتوى بالعربي