استفاق يوسف أخيرا من صدمة موت والده وحاول النهوض سريعاً من الأزمة والعودة إلى عمله، و المحل الخاص به الذي أسسه مع والده منذ الصغر لبيع اللحوم المجمدة، وخلال السنوات الماضية أصبح من أكبر المحلات في البلدة وله اسمه وعلامته التجارية.
ربما كانت صدمة وفاة والد يوسف صدمة كبيرة جعلته يغلق المحل قرابة الشهر، لدرجة أن أصناف بضائع ومنتجات فسدت داخله وانتهت صلاحياته.
ولما لا فهو والده الذي نشأ في رعايته منذ الصغر، حيث لم يرى أمه التي توفيت وهو صغيرا، وربما لا يوعى عليها، ليتحمل الأب المسئولية الكبيرة على عاتقه ، ونجح في تعليمه وتأسيس محل اللحوم ومشاركة ولده له في تجارته بجوار دراسته.
توفي الأب بعد مشوار كبير جدآ مع ابنه يوسف، تاركاً الابن صاحب ٢٧ عام، كان يحلم بأن يراه متزوج و أن يرى أولاده ولكن القدر لم يمنحه تلك الفرصة.
دخل يوسف المحل لأول مرة بعد وفاة والده، ويشعر وأن المحل حزين هو الآخر على فراق صاحبه، وقف يوسف أمام صورة والده الكبيرة في المحل وقد تمكن منها التراب.
وقف يوسف يزيل التراب وهو يبكي و يتذكر والده وذكرياته مع والده والدموع تملأ عينيه بشكل كبير، ثم استعاد قواه وجلس على المكتب واتصل تليفونيا بالموردين ليتفق معهم على منتجات جديدة بدلا من القديمة التى فسدت، وتواصل مع العاملين في المحل للعودة صباح باكر للعمل.
وجلس يوسف على كرسي الإدارة ينظر إلى صورة والده وفجأة وجدها وكأنها تتحرك ويخرج والد يوسف من الصورة، في مشهد أصاب يوسف بالذهول ويقول له: بابا انت عايش؟
يرد الأب: لا يا يوسف أنا بس جاي اطمن عليك وارجع مكانه للأبد من جديد.. وعلى فكرة أنا زعلان منك، كده تسيب المحل الفترة دى كلها لحد ما بقى كدة.
يوسف: كان صعب عليا افتحه وانت مش موجود، ما انت عارف ذكرياتنا سوا في المحل.
الأب: ودلوقتي ما انت فتحت ايه الفرق، عمر يابنى حياتنا ما يمكن تقف، لازم تستمر والشغل يتواصل، هى دى الدنيا لحد نهايتها.
ويستكمل الأب: المحل وصيتي ليك قبل ما اموت و بجدد وصيتي ليك، وعلى فكرة انت ربنا هيوفقك في حياتك وهتبقى حاجة كبيرة اوي.
يوسف: ازاي يا بابا قولي
الأب: كله يبني في علم الغيب وانا مش مُطلع على الغيب ما يعلم الغيب إلا الله تعالى.
يوسف: هو ايه ال حصل معاك بعد الموت يا بابا، انت اكيد عارف دلوقتي.
الأب: كل ال عرفته دلوقتي يا ابني في علم الله تعالى، هو الأعلم به، صحيح أنا عرفته دلوقتي، لكن حكم ربنا أن الأمور دى في الغيبيات ليوم الدين تمنعني اني اقول، ولا يمكن شخص من الأحياء يعرف حاجة إلا لم يدخل دائرة الموت.
الموت عالم كبير يا بني و دائرة كبيرة جداً وحياة لا يمكن تشعر بها وانت هنا في الدنيا، اقولك ايه يا ابني .. ربنا يديك طول العمر.
وتابع الأب، أنا جت بس علشان أوصيك على المحل، مش علشان اقولك اسرار الموت، خد بالك من نفسك يابنى . السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
يوسف يحاول مناداة الأب ولكنه اختفي وعادت الصورة ثابتة كما كانت.
ويسمع يوسف صوت طرق باب المحل ليجد جيرانه من أصحاب المحلات المجاورة جاءوا إليه لمواساته والترحيب به عقب العودة إلى عمله من جديد.
ولكن كلام والده لا يزال في ذهنه، هو لم يكن حلم لأنه لم ينام ولم يغفل حتى، الحديث مع روح والده حقيقي وحدث بالفعل والروح كانت متواجدة أمامه تتحدث إليه ويرد عليها.
ظن يوسف أن روح والده سوف تظل معه دائما وسوف تأتي له باستمرار وسوف تعيش معه، وبدأ يعتقد بداخله أن والده سوف يكون معه وهو ميت كما كان معه وهو حي.
حيث كان يترقب رؤيته دوما بشكل يجعله يتشتت ذهنياً، لم يتخذ أى قرارات بيع انتظاراً لرأي والده كما كان المعتاد في الدنيا، كان يذهب لصورة والده الكبيرة يتحدث معها وينتظر الرد ولكن لا يأتي الرد.
كان يبحث عن والده في كل مكان في المنزل ظنا منه أنه سيظهر له من جديد، ظل يوسف على هذا الحال فترة ليست قصيرة، حتى ظن الناس أن أصابه الجنون، وحاول البعض الاتصال بمصحة نفسية حتى تأتي تصطحبه إلى مكان المصحة النفسية العلاج، إلا أنه تمكن من الهرب وذهب إلى المسجد الكبير الذي كان يذهب فيه باستمرار مع والده للصلاة وقضاء أوقات العبادة بداخله، ويلتقي يوسف بشيخ المسجد الذي كان دائما ما يلتقي به مع والده ويستمعا سويا إلى دروسه التعليمية والدينية التي كانت مفيدة لهما في حياتهما.
وتحدث يوسف للشيخ بما حدث معه منذ وفاة والده، وعن روح والده المتواجدة معه، ولكنها لم تظهر من جديد.
ليتحدث الشيخ إلى يوسف بأن الروح من أمر الله تعالى، ولا يمكن للروح أن تعيش مع الإنسان في الدنيا لأن علمها ومكانها في علم الله سبحانه وتعالى.
وما شاهده وما رآها وما تحدث به مع روح والده ربما تكون رسالة أو رؤية من الله تعالى للعودة إلى حياته الطبيعية والعمل وممارسة أمور حياته والاهتمام بالعمل ونسيان ما فات.
الله أحياناً يرسل إلينا رسائل من عنده تحمل العديد من المعاني الجميلة لنا لترشدنا إلى الطريق الصحيح، ويجب أن يستوعب الإنسان تلك الرسائل ويستغلها جيدا ويضعها في مكانها الصحيح وأن لا يحاول المبالغة فيها، كما بالغ يوسف فيها وظن أن روح والده سوف تعيش معه .. هكذا تحدث الشيخ إلى يوسف.
استمع يوسف إلى كلام الشيخ واستوعبه جيداً وبالفعل عاد إلى عمله ودخل المحل، واول شي قام به هو إزالة صورة والده وعاد بها إلى المنزل ووضعها في مكان يليق بها وعاد من جديد إلى المحل يمارس عمله بطريقته ويباشر حياته، وبعد أعوام أصبح من كبار رجال الأعمال الناجحة في البلد وله حياته وأسرته وابناؤه، وهنا تذكر حديثه مع روح والده والتي تحدث فيها الوالد أنه سيكون له شأن كبير في المستقبل.